الإقراض والسيولة: غياب دور المصارف والحجج جاهزة

الإقراض والسيولة: غياب دور المصارف والحجج جاهزة

مادلين جليس
يبدو أنّ الدّور الكبير الذي من المفترض للمصارف العامة القيام به خلال المرحلة الحالية التي عنونت بإعادة الإعمار لا يزال حبراً على ورق، ولم يُترجم إلى أرض الواقع. حتى الآن يبدو أن الصناعيين غير متحمسين للاقتراض على الرغم من امكانية ذلك، فهم خارج المظلّة التّسليفية وذلك بسبب ارتفاع نسب الفائدة المطبّقة على قروضهم المرغوبة، بالرّغم من أنّها » أي المصارف « السّلّة المالية الدّاعمة للمشاريع الاقتصادية الكبيرة منها والصغيرة على حد سواء، إلا أنّ النظرة التّقليدية السائدة والتعليمات المطبّقة التي تحكم عمل هذه المصارف لاتزال تشكّل عثرة في توسيع رقعة شرائحها المستهدفة، وتحد من انسياب أموالها إلى الأهداف المرجوّة بشكل كبير، فعلى الرغم من أنّ كتلة الأموال المخصصة للإقراض بلغت ١٨٠٠ مليار ليرة، بحسب تصريحات وزير المالية مأمون حمدان، إلا أن الإقراض في المصارف العامّة لايزال خجولاً مقارنة بهذ الرقم المرصود له.  

ظاهرة عامة
شكّل إحجام الصّناعيين عن الاستفادة من هذه القروض -على الرغم من تقديم بعض التسهيلات في منح القروض- ظاهرة عامّة لدى الصّناعيين الذين علّلوا إحجامهم بارتفاع نسبة الفائدة قياساً لحجم التّمويل المطلوب بغية إعادة منشآتهم ومعاملهم للحياة الإنتاجية، فمعظمها طالها الخراب والدمار الكلّي خلال الأزمة، حيث يرى الصّناعي ماهر الزيات أّنه عندما يريد الصّناعي الاستفادة من قرض ما فإّنه يتراجع لأنّ نسبة الفوائد عليه مرتفعة كثيراً وتصل إلى عشرة بالمئة، الأمر الذي يرتّب عليه عبئاً كبيراً، مبيّناً أنّ نسبة كبيرة من الصناعيين تأمل من رئاسة مجلس الوزراء التّدخّل لتخفيض نسب الفوائد، وخاصّة بعد تخصيص مبلغ 20 مليار ليرة لدعم قروض الصناعيين، فعلى الرغم من إقرار الفوائد على القروض لكنها إلى الآن لم تفعّل- بحسب الزّيات-.  

إشكالية الرهن
الصّناعي عاطف طيفور خالفه الرأي قليلاً إذ بيّن أنّ هناك تحسّناً واضحاً خلال الفترة الأخيرة بتوفير القروض الصناعية وتسهيلات المرافقة لمعاملة الاقتراض، ولكن روتين المعاملة الطويل والمعقد بعض الشيء حدّ من تدفّق الصناعيين باتجاه المصارف، وطرح طيفور إشكاليّة الرّهن العقاري التي اعتبرها عائقاً أكثر من الرّوتين، حيث لايزال الصناعيون يطالبون بتسهيلات الرّهن التي تقارب 150٪ من قيمة القرض، علماً أّنهم بحسب طيفور طرحوا فكرة المقارنة بقروض السيارات قبل الأزمة التي كانت دفعة أولى فقط، ويطبّق الرّهن على السّيارة بحدّ ذاتها، مشيراً إلى إمكانية التّطبيق على الماكينات الصناعية ذات الرقم التسلسلي، والتي قيمتها ونسبة استهلاكها تتجاوز ال ١٠ سنوات، أي أنها تشكّل بحدّ ذاتها ضماناً للبنوك، ويمكن الحجز عليها وبيعها بالمزاد العلني في حال التّعثّر، على خلاف السّيارة التي لاتتجاوز قيمة استهلاكها ال 5 سنوات. وأوجز طيفور مطالب الصناعيين بتوفير القرض الصّناعي عبر رهن الماكينات والأرض والعقار، حيث قال: لا داعِ لأن يكون ٪ 150 فقط، نحن نريد أن يكون قرضاً عادلًا كقروض السّيارات. واستبعد فكرة الرّهن العقاري للمنازل كونه لا يستطيع توفير الرّهن عن طريق منزله الخاص بعد عناء سبع سنوات حرب، وعدم ثقته بتقلّبات السّوق وسعر الصرف، حيث أنّ الماكينة تزداد قيمتها مع ارتفاع سعر الصرف، أما العقار يتبع سعر الصرف بعد زمن طويل.  

المصرف الصناعي في وادٍ والصناعي في وادٍ آخر
ولعلّ المصرف الصّناعي هو المعني الأول بحكم اختصاصه بتمويل الصّناعيين ومشاريعهم القائمة والجديدة منها، ولكن بالرغم من مخاطبته لمعرفة حجم القروض الممنوحة للصناعيين من المصرف إلّا  أنّ أجوبته جاءت على شكل تقرير توضيحي لأنواع القروض والمُدد الزمنية والفوائد المطبّقة، دون التطرّق إلى مضمون السؤال حول إمكانية تطبيق فوائد منخفضة توافق رغبة الصناعيين لتجاوز إشكالية إحجامهم عن التّمويل، ما يشي بأنّ المصرف لم يدرس طلبات الصناعيين، واستمر بطرح قروض بفوائد تراوحت بين 12%-10 ، مبّيناً أنّ تخفيض الفائدة يؤدّي إلى خسارة أموال المودعين، واعتبر مدير المصرف الدكتور عمر سيدي أنّ فائدة ال % 10 هي فائدة مشجّعة، أمّا باقي المشاريع الصّناعية تموّل بفائدة % 12 وهي تماثل وأحيانا أقلّ من الفوائد التي تمنح للمشاريع المماثلة في المصارف الأخرى، كما نوّه إلى أنّ المصرف المركزي صاحب القرار في تصدير قرارات بتخفيضها. وقدم إحصائية لنسبة التمويل خلال النّصف الأوّل من العام الحالي التي بلغت ما يقارب 3،2 مليار ل.س لمختلف القطاعات الصّناعية والاستثمارية، بمافيها المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وأصحاب الشهادات العلمية (أطباء وصيادلة ومحاميين.... الخ )، مؤكداً أنّ الأموال الجاهزة للإقراض حتى نهاية النّصف الأوّل من العام الحالي بلغت 27 مليار ل.س، وبالتالي تكون نسبة التّمويل لم تتجاوز % 8.5 فقط من نسب السيولة، بالرّغم من طرحه لقروض تأسيس وبناء وتمويل شراء الآلات وقروض تنموية بفوائد منخفضة وبشروط ميسرة. وأكد سيدي في معرض جوابه عن تساؤلنا حول قلّة أعداد الصّناعيين المقترضين بأنّ المصرف منح قروضاً لبعض الصناعيين الذين تقدّموا بطلباتهم للحصول على قروض صناعية، وتم منح البعض منهم ممن حققوا الشروط المطلوبة للمنح.  

والمصرف التجاري في وادٍ ثالث
أمّا المصرف التّجاري السوري فتجلى تركيزه حالياً على القروض المتوسطة وطويلة الأجل، وفقاً لتوجّهات الحكومة التي تقضي بتوظيف الكتلة النّقدية لدى المصارف في العملية الإنتاجية، بما يخدم عملية الإعمار في المرحلة القادمة التي تُقبل عليها سورية خاصة، لتحقيق المزايا الاقتصادية التي ستعود بالنّفع والفائدة على المواطن السّوري بتشغيل اليد العاملة، وتوفير الدّخل لعدد من العائلات السورية، مؤكّداً على تقديم كافة الإمكانيات المتاحة كمنح قروض بفوائد تتراوح بين % 8 إلى 12% ، وفق معايير ومحددات غير ثابتة، تدرس وفق كلّ حالة على حدى، كما قدّم قرضاً لتمويل المنشآت المتضررة نتيجة الأعمال الأرهابية بقيمة 1 إلى 5 مليار ليرة فقط، على الرّغم من أنّ حجم الكتلة النّقدية المخصّصة للإقراض 455 مليار ل.س بنسبة % 31.34 من السّيولة خلال النّصف الأوّل من العام الحالي.
 
قصور واضح في الإقراض
لكن للخبراء الاقتصاديين آراء أخرى تحلّل نتائج ارتفاع وانخفاض نسبة السّيولة الفائضة القابلة للإقراض في المصارف، حيث أنّ انخفاض هذه النسبة عن حد معيّن كما يرى الخبير الاقتصادي الدّكتور عابد فضلية يُعرّض المصرف لمخاطر نقص السيولة، وارتفاعها فوق حد معين يقلل من فرصة تحقيق الربح، وهذا ما يُسمّى بعلم الاقتصاد بمبدأ التّوازن بين (الربحية) و(السيولة)، أي ضرورة ألّا تكون السّيولة لدى المصرف عالية نسبياًّ فيتحقّق شرط توفّر السّيولة ولا يتحقّق شرط  الرّبحية، وضرورة ألا تكون نسبة السيولة أقل من اللازم، فيتحقق شرط الربحية، ولا يتحقق شرط توفر السيولة الكافية. إذاً فإنّ كل ذلك يؤكّد أنّ لدى المصارف سيولة كبيرة قابلة للإقراض، ويؤكّد أيضاً قصورها في هذا توجيه هذا الإقراض، خاصّة بوجود سيولة أعلى من الحدّ الاقتصادي التّوازني. ويعود فضليّة ليؤكّد أنّ تشغيل هذه السّيولة في عروق الاقتصاد الوطني أصبح ضرورة وينعكس ذلك إيجاباً على كافة المستويات، منها مزيد من الرّبحية للمصارف، ومزيد من التّشغيل للأنشطة والفعاليات الاقتصادية الوطنيّة، فالمال يبقى عقيماً ولا قيمة له عندما يكون في الأقبية والّصناديق وتحت البلاطة -كما يُقال- وقيمته الاقتصادية يأخذها من خلال تشغيله، فيصبح المال رأسمال، ويتحوّل النّقد وتتحوّل الأصول إلى مولّد للقيمة المضافة، وبالتالي إلى تنمية الاقتصاد وتحريك الأنشطة، والوجه الآخر لذلك هو تحسين مستوى معيشة الإنسان والوضع المادي وغير المادي للمجتمع.. وهذا هو دور المال والنّقود لتكون وسيلة للتبادل عدا عن دورها كأداة لقياس القيمة، ووسيلة للاكتناز -لغرض الاستثمار-، أمّا تخزينها وحجبها عن التّداول لأيّ سبب كان فهذا خلل كبير، وبالتالي فإنّ اكتنازها في المصارف هو خروج عن طبيعتها وفلسفة إيجادها، وعن الغاية الأصلية من صكّها. لذلك شدّد فضلية على ضرورة قيام المصارف بمراجعة تعليمات الإقراض لديها لتتناسب مع ظروف الأنشطة والفعاليات اليوم، وذلك بالتنسيق مع وزارة المالية ومصرف سورية المركزي، بحيث تصبح هذه التعليمات مرنة وموضوعية ومنسجمة أكثر مع الواقع الحالي، وهذا الأمر يتطلّب أيضاً إعادة النّظر بنسب الفائدة، لتكون مرتفعة إلى المستوى المحفّز لإيداع الأموال والودائع بالمصارف، ولكن ليس إلى المستوى المثبط للاقتراض، بمعنى أن يكون هناك توازن بمستوى الفائدة (المدينة) و(الدائنة) كما هو الأمر بمسألة التوازن بين (السيولة) و(الربحية. 

شارك برأيك .. لتكتمل الصورة


استطلاعات الرأي

يجب ان تختار خيار قبل ارسال التصويت
هل تعتقد أن الوقت قد حان لبدء تطبيق الدفع الإلكتروني في سوريا؟
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني
النتائج
نعم، حان الوقت لبدء تطبيقه وفرضه فوراً وهو ضروري للاقتصاد
لا، يجب إعداد بنية تحتية تقنية ومن ثم البدء بفرضه
لا، غير جاهزين بالوضع الراهن نهائياً لتطبيق الدفع الإلكتروني